فصل: تفسير الآية رقم (60):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (50):

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا}.
التَّحْقِيقُ: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ، رَاجِعٌ إِلَى مَاءِ الْمَطَرِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّ الضَّمِيرَ الْمَذْكُورَ رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَصَدَّرَ بِهِ الْقُرْطُبِيُّ، وَصَدَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِمَا يَقْرُبُ مِنْهُ.
وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي: صَرَّفْنَاهُ، عَائِدٌ إِلَى مَاءِ الْمَطَرِ.
فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَعْنَى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا مَاءَ الْمَطَرِ بَيْنَ النَّاسِ فَأَنْزَلْنَا مَطَرًا كَثِيرًا فِي بَعْضِ السِّنِينَ عَلَى بَعْضِ الْبِلَادِ، وَمَنَعْنَا الْمَطَرَ فِي بَعْضِ السِّنِينَ عَنْ بَعْضِ الْبِلَادِ، فَيَكْثُرُ الْخِصْبُ فِي بَعْضِهَا، وَالْجَدْبُ فِي بَعْضِهَا الْآخَرِ، وَقَوْلُهُ: لِيَذَّكَّرُوا، أَيْ: صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِأَجْلِ أَنْ يَتَذَكَّرُوا، أَيْ: يَتَذَكَّرَ الَّذِينَ أَخْصَبَتْ أَرْضُهُمْ لِكَثْرَةِ الْمَطَرِ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَيَشْكُرُوا لَهُ، وَيَتَذَكَّرَ الَّذِينَ أَجْدَبَتْ أَرْضُهُمْ مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ، فَيُبَادِرُوا بِالتَّوْبَةِ إِلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا لِيَرْحَمَهُمْ وَيَسْقِيَهُمْ، وَقَوْلُهُ: فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا، أَيْ: كُفْرًا لِنِعْمَةِ مَنْ أَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ، وَذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، أَشَارَ لَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [56/ 82] فَقَوْلُهُ: رِزْقَكُمْ، أَيِ: الْمَطَرَ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} [40/ 13] وَقَوْلُهُ: أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ، أَيْ: بِقَوْلِكُمْ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، وَيَزِيدُ هَذَا إِيضَاحًا الْحَدِيثُ الثَّابِتُ فِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ بِسَنَدِهِ وَمَتْنِهِ مُسْتَوْفًى، وَهُوَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ يَوْمًا عَلَى أَثَرِ سَمَاءٍ أَصَابَتْهُمْ مِنَ اللَّيْلِ: «أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ»؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «قَالَ: أَصْبَحَ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَاكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَاكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ».
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا، يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا. وَمَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِالْبُخَارِ، يَعْنِي أَنَّ الْبَحْرَ يَتَصَاعَدُ مِنْهُ بُخَارُ الْمَاءِ، ثُمَّ يَتَجَمَّعُ ثُمَّ يَنْزِلُ عَلَى الْأَرْضِ بِمُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ لَا بِفِعْلِ فَاعِلٍ، وَأَنَّ الْمَطَرَ مِنْهُ؛ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فَسُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.

.تفسير الآيات (51-52):

{وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}.
الْمَعْنَى: لَوْ شِئْنَا لَخَفَّفْنَا عَنْكَ أَعْبَاءَ الرِّسَالَةِ، وَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا يَتَوَلَّى مَشَقَّةَ إِنْذَارِهَا عَنْكَ، أَيْ: وَلَكِنَّنَا اصْطَفَيْنَاكَ، وَخَصَصْنَاكَ بِعُمُومِ الرِّسَالَةِ لِجَمِيعِ النَّاسِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِكَ، وَرَفْعًا مِنْ مَنْزِلَتِكَ، فَقَابَلَ ذَلِكَ بِالِاجْتِهَادِ وَالتَّشَدُّدِ التَّامِّ فِي إِبْلَاغِ الرِّسَالَةِ، وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ الْآيَةَ.
وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنِ اصْطِفَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرِّسَالَةِ لِجَمِيعِ النَّاسِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [7/ 158] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [34/ 28] وَقَوْلِهِ: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [6/ 19] وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} الْآيَةَ [11/ 17].
وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ هَذَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [25/ 1] وَقَوْلُهُ: فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ، ذَكَرَهُ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} الْآيَةَ [33/ 48] وَقَوْلِهِ: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [76/ 24] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} الْآيَةَ [18/ 28] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [68/ 10].
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ، أَيْ: بِالْقُرْآنِ، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالْجِهَادُ الْكَبِيرُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْمَصْحُوبُ بِالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} الْآيَةَ [9/ 123] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [9/ 73] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُطِيعُ الْكَافِرِينَ، وَلَكِنَّهُ يَأْمُرُ وَيَنْهَى لِيُشَرِّعَ لِأُمَّتِهِ عَلَى لِسَانِهِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.

.تفسير الآية رقم (53):

{وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا}.
اعْلَمْ أَنَّ لَفْظَةَ: مَرَجَ، تُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ إِطْلَاقَيْنِ:
الْأَوَّلُ: مَرَجَ بِمَعْنَى: أَرْسَلَ وَخَلَّى، مِنْ قَوْلِهِمْ: مَرَجَ دَابَّتَهُ إِذَا أَرْسَلَهَا إِلَى الْمَرَجِ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تَرْعَى فِيهِ الدَّوَابُّ؛ كَمَا قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
وَكَانَتْ لَا يَزَالُ بِهَا أَنِيسٌ ** خِلَالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ

وَعَلَى هَذَا، فَالْمَعْنَى: أَرْسَلَ الْبَحْرَيْنِ وَخَلَّاهُمَا لَا يَخْتَلِطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ.
وَالْإِطْلَاقُ الثَّانِي: مَرَجَ بِمَعْنَى: خَلَطَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} أَيْ: مُخْتَلِطٍ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: فَالْمُرَادُ بِالْبَحْرَيْنِ الْمَاءُ الْعَذْبُ فِي جَمِيعِ الدُّنْيَا، وَالْمَاءُ الْمِلْحُ فِي جَمِيعِهَا.
وَقَوْلُهُ: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} يَعْنِي: بِهِ مَاءَ الْآبَارِ وَالْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا.
وَقَوْلُهُ: {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} أَيِ: الْبَحْرُ الْمِلْحُ، كَالْبَحْرِ الْمُحِيطِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْبِحَارِ الَّتِي هِيَ مِلْحٌ أُجَاجٌ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَلَا إِشْكَالَ.
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي بِأَنَّ مَرَجَ بِمَعْنَى خَلَطَ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُوجَدُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ اخْتِلَاطُ الْمَاءِ الْمِلْحِ وَالْمَاءِ الْعَذْبِ فِي مَجْرًى وَاحِدٍ، وَلَا يَخْتَلِطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، بَلْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا حَاجِزٌ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا مُحَقَّقُ الْوُجُودِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ، وَمِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي هُوَ وَاقِعٌ فِيهَا الْمَحَلُّ الَّذِي يَخْتَلِطُ فِيهِ نَهْرُ السِّنْغَالِ بِالْمُحِيطِ الْأَطْلَسِيِّ بِجَنْبِ مَدِينَةِ سَانْ لُوِيسْ، وَقَدْ زُرْتُ مَدِينَةَ سَانْ لُوِيسْ عَامَ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَأَلْفٍ هِجْرِيَّةً، وَاغْتَسَلْتُ مَرَّةً فِي نَهْرِ السِّنْغَالِ، وَمَرَّةً فِي الْمُحِيطِ، وَلَمْ آتِ مَحَلَّ اخْتِلَاطِهِمَا، وَلَكِنْ أَخْبَرَنِي بَعْضُ الْمُرَافِقِينَ الثِّقَاتِ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى مَحَلِّ اخْتِلَاطِهِمَا، وَأَنَّهُ جَالِسٌ يَغْرِفُ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَذْبًا وَفُرَاتًا، وَبِالْأُخْرَى مِلْحًا أُجَاجًا، وَالْجَمِيعُ فِي مَجْرًى وَاحِدٍ، لَا يَخْتَلِطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، فَسُبْحَانَهُ جَلَّ وَعَلَا مَا أَعْظَمَهُ، وَمَا أَكْمَلَ قُدْرَتُهُ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ فَاطِرٍ: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [35/ 12] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ} [55/ 19- 20] أَيْ: لَا يَبْغِي أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَيَمْتَزِجَ بِهِ، وَهَذَا الْبَرْزَخُ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْبَحْرِينِ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ وَسُورَةِ الرَّحْمَنِ، قَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّمْلِ أَنَّهُ حَاجِزٌ حَجَزَ بِهِ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [27/ 61] وَهَذَا الْحَاجِزُ هُوَ الْيُبْسُ مِنَ الْأَرْضِ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْمَاءِ الْعَذْبِ، وَالْمَاءِ الْمِلْحِ عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ.
وَأَمَّا عَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي: فَهُوَ حَاجِزٌ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ غَيْرُ مَرْئِيٍّ لِلْبَشَرِ، وَأَكَّدَ شِدَّةَ حَجْزِهِ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ هُنَا: وَحِجْرًا مَحْجُورًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا: حِجْرًا، أَيْ: مَنْعًا وَحَرَامًا قَدَرِيًّا، وَأَنْ مَحْجُورًا تَوْكِيدٌ لَهُ، أَيْ: مَنْعًا شَدِيدًا لِلِاخْتِلَاطِ بَيْنَهُمَا، وَقَوْلُهُ: هَذَا عَذْبٌ، صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَذُبَ الْمَاءُ بِالضَّمِّ فَهُوَ عَذْبٌ. وَقَوْلُهُ: فُرَاتٌ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ أَيْضًا، مِنْ فَرُتَ الْمَاءُ بِالضَّمِّ، فَهُوَ فُرَاتٌ، إِذَا كَانَ شَدِيدَ الْعُذُوبَةِ، وَقَوْلُهُ: وَهَذَا مِلْحٌ، صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِمْ: مَلُحَ الْمَاءُ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ، فَهُوَ مِلْحٌ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ: وَلَا يُقَالُ مَالِحٌ إِلَّا فِي لُغَةٍ رَدِيَّةٍ، اه.
وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِقَوْلِ الْقَائِلِ:
وَلَوْ تَفَلَتْ فِي الْبَحْرِ وَالْبَحْرُ مَالِحٌ ** لَأَصْبَحَ مَاءُ الْبَحْرِ مِنْ رِيقِهَا عَذْبًا

وَقَوْلُهُ: {أُجَاجٌ} صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ أَيْضًا، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَجَّ الْمَاءُ يَؤُجُّ أُجُوجًا فَهُوَ أُجَاجٌ، أَيْ: مِلْحٌ مُرٌّ، فَالْوَصْفُ بِكَوْنِهِ أُجَاجًا يَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْمَرَارَةِ عَلَى كَوْنِهِ مِلْحًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

.تفسير الآية رقم (54):

{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا}.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ، فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَقَسَّمَ الْبَشَرَ قِسْمَيْنِ، ذَوَيْ نَسَبٍ، أَيْ: ذُكُورًا يُنْسَبُ إِلَيْهِمْ، فَيُقَالُ: فَلَانُ بْنُ فُلَانٍ وَفُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ، وَذَوَاتِ صِهْرٍ، أَيْ: إِنَاثًا يُطَاهِرُ بِهِنَّ؛ كَقَوْلِهِ: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [75/ 39] وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا، حَيْثُ خَلَقَ مِنَ النُّطْفَةِ الْوَاحِدَةِ بَشَرًا نَوْعَيْنِ ذَكَرًا وَأُنْثَى، انْتَهَى مِنْهُ.
وَهَذَا التَّفْسِيرُ الَّذِي فَسَّرَ بِهِ الْآيَةَ، يَدُلُّ لَهُ مَا اسْتُدِلَّ عَلَيْهِ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [75/ 37- 39] وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ آيَةَ الْفُرْقَانِ هَذِهِ بَيَّنَتْهَا آيَةُ الْقِيَامَةِ الْمَذْكُورَةُ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَقْوَالٌ أُخَرُ غَيْرُ مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.
مِنْهَا مَا ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ، قَالَ: فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا، فَهُوَ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ وَلَدُ نَسِيبٍ ثُمَّ يَتَزَوَّجُ فَيَصْهِرُ صِهْرًا، وَانْظُرْ بَقِيَّةَ الْأَقْوَالِ فِي الْآيَةِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ وَالدَّرِّ الْمَنْثُورِ لِلسُّيُوطِيِّ.
مَسْأَلَةٌ.
اسْتَنْبَطَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ بِنْتَ الرَّجُلِ مِنَ الزِّنَى، لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ نِكَاحُهَا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَالنَّسَبُ عِبَارَةٌ عَنْ خَلْطِ الْمَاءِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، عَلَى وَجْهِ الشَّرْعِ، فَإِنْ كَانَ بِمَعْصِيَةٍ كَانَ خَلْقًا مُطْلَقًا، وَلَمْ يَكُنْ نَسَبًا مُحَقَّقًا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ قَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [4/ 23] بِنْتُهُ مِنَ الزِّنَى؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِبِنْتٍ لَهُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ لِعُلَمَائِنَا، وَأَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ فِي الدِّينِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ نَسَبٌ شَرْعًا فَلَا صِهْرَ شَرْعًا، فَلَا يُحَرِّمُ الزِّنَى بِنْتَ أُمٍّ، وَلَا أُمَّ بِنْتٍ، وَمَا يُحَرَّمُ مِنَ الْحَلَالِ، لَا يُحَرَّمُ مِنَ الْحَرَامِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ امْتَنَّ بِالنَّسَبِ وَالصِّهْرِ عَلَى عِبَادِهِ وَرَفَعَ قَدْرَهُمَا، وَعَلَّقَ الْأَحْكَامَ فِي الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ عَلَيْهِمَا، فَلَا يَلْحَقُ الْبَاطِلُ بِهِمَا، وَلَا يُسَاوِيهِمَا، انْتَهَى مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْقُرْطُبِيِّ عَنْهُ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نِكَاحِ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ مِنْ زِنًى، أَوْ أُخْتَهُ، أَوْ بِنْتَ ابْنِهِ مِنْ زِنًى فَحَرَّمَ ذَلِكَ قَوْمٌ، مِنْهُمُ: ابْنُ الْقَاسِمِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَأَجَازَ ذَلِكَ آخَرُونَ، مِنْهُمْ: عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي النِّسَاءِ مُجَوَّدًا، انْتَهَى مِنْهُ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ، وَأَرْجَحُ الْقَوْلَيْنِ دَلِيلًا فِيمَا يَظْهَرُ أَنَّ الزِّنَى لَا يُحَرَّمُ بِهِ حَلَالٌ، فَبِنْتُهُ مِنَ الزِّنَى لَيْسَتْ بِنْتًا لَهُ شَرْعًا، وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [4/ 11] فَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَرِثُ، وَلَا تَدْخُلُ فِي آيَاتِ الْمَوَارِيثِ، دَلِيلٌ صَرِيحٌ عَلَى أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ مِنْهُ، وَلَيْسَتْ بِنْتًا شَرْعًا، وَلَكِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِحَالٍ، وَذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كَوْنَهَا مَخْلُوقَةً مِنْ مَائِهِ، يَجْعَلُهَا شَبِيهَةً شَبَهًا صُورِيًّا بِابْنَتِهِ شَرْعًا، وَهَذَا الشَّبَهُ الْقَوِيُّ بَيْنَهُمَا يَنْبَغِي أَنْ يَزَعَهُ عَنْ تَزْوِيجِهَا.
الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَلَذَّذَ بِشَيْءٍ سَبَبُ وُجُودِهِ مَعْصِيَتُهُ لِخَالِقِهِ جَلَّ وَعَلَا، فَالنَّدَمُ عَلَى فِعْلِ الذَّنْبِ الَّذِي هُوَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ التَّوْبَةِ، لَا يُلَائِمُ التَّلَذُّذَ بِمَا هُوَ نَاشِئٌ عَنْ نَفْسِ الذَّنْبِ، وَمَا ذَكَرَهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ مِنْ أَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الْبِنْتَ مِنَ الزِّنَى لَا تَحْرُمُ، هُوَ مُرَادُ الزَّمَخْشَرِيِّ بِقَوْلِهِ:
وَإِنْ شَافِعِيًّا قُلْتُ قَالُوا بِأَنَّنِي ** أُبِيحُ نِكَاحَ الْبِنْتِ وَالْبِنْتُ تَحْرُمُ

تَنْبِيهٌ.
اعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ عَنْ قَتَادَةَ مِمَّا يَقْتَضِي أَنَّهُ اسْتَنْبَطَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا، أَنَّ الصِّهْرَ كَالنَّسَبِ فِي التَّحْرِيمِ، وَأَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَحْرُمُ بِهِ سَبْعُ نِسَاءٍ لَمْ يَظْهَرْ لِي وَجْهُهُ، وَمِمَّا يَزِيدُهُ عَدَمَ ظُهُورٍ ضَعْفُ دَلَالَةِ الِاقْتِرَانِ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ؛ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ مِرَارًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

.تفسير الآية رقم (55):

{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ}.
تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ، وَغَيْرِهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا. الظَّهِيرُ فِي اللُّغَةِ: الْمُعِينُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [66/ 4] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [28/ 17].
وَمَعْنَى قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا، عَلَى أَظْهَرِ الْأَقْوَالِ: وَكَانَ الْكَافِرُ مُعِينًا لِلشَّيْطَانِ، وَحِزْبِهِ مِنَ الْكَفَرَةِ عَلَى عَدَاوَةِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، فَالْكَافِرُ مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ، الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَالْكَافِرُ يُعِينُ الشَّيْطَانَ وَحِزْبَهُ فِي سَعْيِهِمْ؛ لِأَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ لَيْسَتْ هِيَ الْعُلْيَا، وَهَذَا الْمَعْنَى دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ} الْآيَةَ [4/ 76] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ، الْمُقَاتِلِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَنَّهُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرٌ.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} [36/ 74- 75] عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْجُنْدَ الْمُحْضَرُونَ هُمُ الْكُفَّارُ، يُقَاتِلُونَ عَنْ آلِهَتِهِمْ وَيُدَافِعُونَ عَنْهَا، وَمَنْ قَاتَلَ عَنِ الْأَصْنَامِ مُدَافِعًا عَنْ عِبَادَتِهَا، فَهُوَ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرٌ، وَكَوْنُهُ ظَهِيرًا عَلَى رَبِّهِ، أَيْ: مُعِينًا لِلشَّيْطَانِ وَحِزْبِهِ عَلَى عَدَاوَةِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ؛ كَكَوْنِهِ عَدُوًّا لَهُ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [2/ 98] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [41/ 19] وَمَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ لَوْ تَعَاوَنُوا عَلَى عَدَاوَةِ اللَّهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَضُرُّوهُ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا يَضُرُّونَ بِذَلِكَ أَنْفُسَهُمْ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [35/ 15].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}.
قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَأَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً}.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ هُودٍ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} الْآيَةَ [11/ 29].

.تفسير الآية رقم (58):

{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ}.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِمِثْلِهِ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [1/ 5].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا}.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [17/ 17].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَةَ الَّتِي فِيهَا تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [7/ 54].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا}.
قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} الْآيَةَ [7/ 54].

.تفسير الآية رقم (60):

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا}.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ: اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ، أَيْ: قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ، تَجَاهَلُوا الرَّحْمَنَ، وَقَالُوا: وَمَا الرَّحْمَنُ، وَأَنْكَرُوا السُّجُودَ لَهُ تَعَالَى، وَزَادَهُمْ ذَلِكَ نُفُورًا عَنِ الْإِيمَانِ وَالسُّجُودِ لَلرَّحْمَنِ، وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالسُّجُودِ لَهُ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا مَذْكُورًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [41/ 37].
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [53/ 62] وَقَدْ وَبَّخَهُمْ تَعَالَى عَلَى عَدَمِ امْتِثَالِ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} [84/ 21] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} [77/ 48] وَتَجَاهُلُهُمْ لِلرَّحْمَنِ هُنَا أَجَابَهُمْ عَنْهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [55/ 1- 4].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [17/ 110] وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْ هَذَا فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَيْضًا أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الرَّحْمَنَ هُوَ اللَّهُ، وَأَنَّ تَجَاهُلَهُمْ لَهُ تَجَاهُلُ عَارِفٍ، وَأَدِلَّةَ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ هُنَا: وَزَادَهُمْ نُفُورًا، جَاءَ مَعْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا} [17/ 41] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [67/ 21] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

.تفسير الآية رقم (61):

{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا}.
قَدْ قَدَّمْنَا كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى تَبَارَكَ، فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ.
وَالْبُرُوجُ فِي اللُّغَةِ: الْقُصُورُ الْعَالِيَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْبُرُوجِ فِي الْآيَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ الْكَوَاكِبُ الْعِظَامُ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي صَالِحٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، ثُمَّ قَالَ: وَقِيلَ هِيَ قُصُورٌ فِي السَّمَاءِ لِلْحَرَسِ. وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَلَيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ مِهْرَانَ الْأَعْمَشِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي صَالِحٍ أَيْضًا، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْكَوَاكِبُ الْعِظَامُ، هِيَ قُصُورٌ لِلْحَرَسِ فَيَجْتَمِعُ الْقَوْلَانِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [67/ 5] اه مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ كَثِيرٍ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: الْبُرُوجُ مَنَازِلُ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ السَّيَّارَةِ: الْحَمْلُ، وَالثَّوْرُ، وَالْجَوْزَاءُ، وَالسَّرَطَانُ، وَالْأَسَدُ، وَالسُّنْبُلَةُ، وَالْمِيزَانُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْقَوْسُ، وَالْجَدْيُ، وَالدَّلْوُ، وَالْحُوتُ، سُمِّيَتِ الْبُرُوجُ الَّتِي هِيَ الْقُصُورُ الْعَالِيَةُ؛ لِأَنَّهَا لِهَذِهِ الْكَوَاكِبِ كَالْمَنَازِلِ لِسُكَّانِهَا، وَاشْتِقَاقُ الْبُرْجِ مِنَ التَّبَرُّجِ لِظُهُورٍ، اه مِنْهُ.
وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا هُنَا مِنْ أَنَّهُ جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَهُوَ الشَّمْسُ، وَقَمَرًا مُنِيرًا، بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} [15/ 16] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [85/ 1] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} [78/ 13] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [71/ 15- 16] وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا، بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِ الرَّاءِ بَعْدَهَا أَلِفٌ عَلَى الْإِفْرَادِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: سُرُجًا بِضَمِّ السِّينِ وَالرَّاءِ جَمْعُ سِرَاجٍ، فَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِإِفْرَادِ السِّرَاجِ، فَالْمُرَادُ بِهِ الشَّمْسُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [71/ 16] وَعَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ بِالْجَمْعِ، فَالْمُرَادُ بِالسُّرُجِ: الشَّمْسُ وَالْكَوَاكِبُ الْعِظَامُ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْحِجْرِ، أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ أَنَّ الْقَمَرَ فِي السَّمَاءِ الْمَبْنِيَّةِ لَا السَّمَاءِ الَّتِي هِيَ مُطْلَقُ مَا عَلَاكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ، أَنَّ السَّمَاءَ الَّتِي جُعِلَ فِيهَا الْبُرُوجُ هِيَ الْمَحْفُوظَةَ، وَالْمَحْفُوظَةُ هِيَ الْمَبْنِيَّةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [51/ 47] وَقَوْلِهِ: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} [78/ 12] وَلَيْسَتْ مُطْلَقُ مَا عَلَاكَ، وَالْبَيَانُ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا} الْآيَةَ [15/ 16- 17] فَآيَةُ الْحِجْرِ هَذِهِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ ذَاتَ الْبُرُوجِ هِيَ الْمَبْنِيَّةُ الْمَحْفُوظَةُ، لَا مُطْلَقُ مَا عَلَاكَ.
وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي آيَةِ الْفُرْقَانِ هَذِهِ، بَيَّنَ أَنَّ الْقَمَرَ فِي السَّمَاءِ الَّتِي جَعَلَ فِيهَا الْبُرُوجَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ هُنَا: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [25/ 61] وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مُطْلَقُ مَا عَلَاكَ، وَهَذَا الظَّاهِرُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، مِمَّا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَإِنْ قِيلَ: يُوجَدُ فِي كَلَامِ بَعْضِ السَّلَفِ، أَنَّ الْقَمَرَ فِي فَضَاءٍ بَعِيدٍ مِنَ السَّمَاءِ، وَأَنَّ عِلْمَ الْهَيْئَةِ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ الْأَرْصَادَ الْحَدِيثَةَ بَيَّنَتْ ذَلِكَ.
قُلْنَا: تَرْكُ النَّظَرِ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ عَمَلٌ بِهَدْيِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمَّا تَاقَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَى تَعَلُّمِ هَيْئَةِ الْقَمَرِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالُوا لَهُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا بَالُ الْهِلَالِ يَبْدُو دَقِيقًا ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَكْبُرُ حَتَّى يَسْتَدِيرَ بَدْرًا؟ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِالْجَوَابِ بِمَا فِيهِ فَائِدَةٌ لِلْبَشَرِ، وَتَرَكَ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [2/ 189] وَهَذَا الْبَابُ الَّذِي أَرْشَدَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ إِلَى سَدِّهِ لَمَّا فَتَحَهُ الْكَفَرَةُ كَانَتْ نَتِيجَةُ فَتْحِهِ الْكُفْرَ، وَالْإِلْحَادَ وَتَكْذِيبَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ، وَالَّذِي أَرْشَدَ اللَّهُ إِلَيْهِ فِي كِتَابِهِ هُوَ النَّظَرُ فِي غَرَائِبِ صُنْعِهِ وَعَجَائِبِهِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، لِيَسْتَدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى، وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ، وَهَذَا الْمَقْصِدُ الْأَسَاسِيُّ لَمْ يَحْصُلْ لِلنَّاظِرِينَ فِي الْهَيْئَةِ مِنَ الْكُفَّارِ.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ تَرْكُ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إِلَّا لِدَلِيلٍ مُقْنِعٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي مَحَلِّهِ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِينَ يُحَاوِلُونَ الصُّعُودَ إِلَى الْقَمَرِ بِآلَاتِهِمْ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ نَزَلُوا عَلَى سَطْحِهِ، سَيَنْتَهِي أَمْرُهُمْ إِلَى ظُهُورِ حَقَارَتِهِمْ، وَضَعْفِهِمْ، وَعَجْزِهِمْ، وَذُلِّهِمْ أَمَامَ قُدْرَةِ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَلَّ وَعَلَا.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْحِجْرِ، أَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ} [38/ 10- 11].
فَإِنْ قِيلَ: الْآيَاتُ الَّتِي اسْتَدْلَلْتَ بِهَا عَلَى أَنَّ الْقَمَرَ فِي السَّمَاءِ الْمَحْفُوظَةِ فِيهَا احْتِمَالٌ عَلَى أُسْلُوبٍ عَرَبِيٍّ مَعْرُوفٍ، يَقْتَضِي عَدَمَ دَلَالَتِهَا عَلَى مَا ذَكَرْتَ، وَهُوَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى اللَّفْظِ وَحْدَهُ، دُونَ الْمَعْنَى.
وَإِيضَاحُهُ أَنْ يُقَالَ فِي قَوْلِهِ: جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا، هِيَ السَّمَاءُ الْمَحْفُوظَةُ، وَلَكِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا، رَاجِعٌ إِلَى مُطْلَقِ لَفْظِ السَّمَاءِ الصَّادِقِ بِمُطْلَقِ مَا عَلَاكَ فِي اللُّغَةِ، وَهَذَا أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ، بِمَسْأَلَةِ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ، أَيْ: نِصْفُ دِرْهَمٍ آخَرَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [35/ 11] أَيْ: وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِ مُعَمَّرٍ آخَرَ.
قُلْنَا: نَعَمْ، هَذَا مُحْتَمَلٌ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ عِنْدَنَا دَلِيلٌ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَالْعُدُولُ عَنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ لَا يَجُوزُ إِلَّا لِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ وَالتَّصْدِيقِ مِنْ أَقْوَالِ الْكَفَرَةِ وَمُقَلِّدِيهِمْ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.